search-form-close

أي دور للقضاء في “الحراك” الشعبي ؟

  • facebook-logo twitter-logo

مختار الأخضري*

مساهمة: ” سيدي الرئيس،…إن بين الجزائر و مصر نقاطا مشتركة عديدة في تاريخهما الحديث، فالجيش المصري ممثلا في الضباط الأحرار، خلع الملك عام 1952 و أقام نظاما جمهوريا و هو ما حدث أيضا في الجزائر عندما تولى الجيش، ممثلا في قيادة الأركان، السلطة بعد إزاحته للحكومة المؤقتة ، لكن ثمة فرقا جوهريا بين البلدين و هو أن الضباط الأحرار في مصر، وجدوا القضاء المصري قائما أما في الجزائر فإن القضاء لم يكن موجودا و إنما صنعته السلطة التي انبثقت عن أزمة صائفة  1962 و بالتالي فمن الصعب أن نتصوره مستقلا عن السلطة التي أوجدته…”.

هذه الكلمات قالها الخبير في الشؤون السياسية روبرت هوج سنة 2010 خلال جلسات سماع الشهود و الخبراء بمحكمة ويستمنستر بلندن عندما تمت دعوته من طرف دفاع خليفة رفيق عبد المؤمن  لإنارة القاضي تيموتي وركمان حول وضعية حقوق الإنسان في الجزائر  و الضمانات التي قدمتها الحكومة الجزائرية لإستفادة المعني من محاكمة عادلة.

لكن بقدر ما كان هذا التشخيص قاسيا و مؤلما بالنسبة لي، بقدر ما كان يعبر عن حقيقة مرة كنت أرفض قبولها، مثل الكثير من زملائي القضاة، لكنها فرضت نفسها علينا جميعا طيلة حياتنا المهنية.

لقد عملنا، كل بطريقته، على  تغيير هذا الواقع غير أن جهودنا لم تكن لتثمر بسبب ما واجهته من محيط معاد و غير مهيأ للتغيير و مع ذلك فإننا لم نتوقف عن لفت الإنتباه للإختلالات الهيكلية و الإنحرافات الوظيفية التي أثرت على حسن سير العدالة.   ففي أوج الافتخار بما كان يسمى “إصلاح العدالة” كتبت في خاتمة مؤلف حول العلاقة بين الصحافة و القضاء (منشورات دار هومة – 2012) ” إن الشروط التي تجعل المجتمع يثق في استقلال القضاء لم تتوفر بعد في بلادنا كما هي الحال في بعض البلاد الأكثر تقدما في الممارسة الديمقراطية، و ما زال المجتمع عندنا ينظر إلى القضاء باعتباره امتدادا للسلطة التنفيذية التي تحتكر بشكل فعلي سلطة القرار في مختلف مجالات الحياة السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية…”

و دون أن أنقص من جهود و تضحيات زميلاتي و زملائي القضاة الذين كانت لهم في عديد المناسبات مواقف شجاعة و مشرفة، كثيرا ما دفعوا ثمنها بالتهميش و الإقصاء، أجدني مضطرا لأقول بأن القضاء ولد و عاش بتشوهاته الخلقية منذ عرفته في زمن الحزب الواحد أو في فترة العشرية السوداء أو خلال الفترة التي تلتها و لم يعرف عصره الذهبي إلا في  الفترة القصيرة (1990-1991) التي انبثقت عن دستور 1989 و ما انجر عنها من إصلاحات.

لقد كانت فعلا فترة متميزة بالنسبة للقضاة كأفراد و بالنسبة للقضاء كمؤسسة، و لم يكن ذلك ممكنا لولا الظرف التاريخي الخاص الذي فرض على أصحاب القرار، ضرورة الإعتراف للقضاء بالقدر اللازم من الاستقلال الذي يعطي المصداقية للإصلاحات التي باشرتها السلطة تحت ضغط المطالب الشعبية.

لم أكن لأتحدث و أنكث واجب التحفظ الذي يلزمني كقاض و كمسؤول سابق بوزارة العدل لولا هذا الظرف الخاص و الاستثنائي الذي تعيشه بلادنا و الذي يحمل آمالا عظيمة لأمتنا و و يستنهض هممنا و ضمائرنا.

إن الظرف الحالي يقتضي أن يكون القضاة على وعي و دراية تامة بأهمية الموقف والدور المنتظر منهم بالنسبة لحاضر الأمة و مستقبلها. و مهما كانت النتائج التي سيؤول إليها “الحراك” و ما ستتمخض عنه من خيارات فإنهم مطالبون بالنضال من أجل استرجاع استقلالهم و جعله بمنأى عن كل استغلال مغرض.  فالأمر لا يتعلق فقط بشرف و كرامة سلك القضاء بل بمصلحة و مصير الأمة بأكملها.

فقد عرفت الجزائر منذ استقلالها منعطفات تاريخية و تحولات في خياراتها السياسية و الاقتصادية و في كل مرة كان ” النظام الجديد” يرفع شعار استقلال القضاء و محاربة الفساد و في كل مرة كان استقلال القضاء مجرد وهم و تحريك القضاء ضد المفسدين مجرد وسيلة ظاهرها محاربة الفساد و باطنها، تصفية الحسابات مع رموز “النظام القديم”.

زميلاتي زملائي القضاة،

إننا اليوم أمام مرحلة تاريخية متميزة و بصرف النظر عن الأسباب التي أفرزتها و العوامل التي تغذيها و الأطراف التي تحركها و تحاول استغلالها في إطار “أجندات” داخلية أو دولية، تبقى مرحلة غير مسبوقة و فرصة ثمينة قد لا تتكرر لأنها بمثابة مرحلة ” ما قبل العقد الإجتماعي” التي ألغى فيها الشعب، و الشباب على وجه الخصوص، الأطر و المرجعيات القديمة و صرخ بأعلى صوته بأنه يريد مرجعيات سياسية و تاريخية و إجتماعية و ثقافية جديدة يؤسس عليها مستقبله.

سوف نكون جد مثاليين و غير واقعيين إذا اعتقدنا أن تحقيق المطالب الشعبية و الخروج من مرحلة الأزمة إلى بر الأمان مسألة هينة، و لنا في تاريخ الأمم الحديث و القديم أكثر من عبرة، لكن الأمل جد عظيم في ميلاد دولة جزائرية جديدة يكون القضاء المستقل أحد دعاماتها الأساسية.

إن إفلاس النظام السياسي، و غرور ممثليه و احتقارهم للشعب كانت مما لا شك فيه الأساب المفجرة للغضب الشعبي لكنه من الخطأ أن نختصر الأزمة في مجرد جانبها السياسي لأن ذلك يعني تجاهل أبعادها المتعددة و أسبابها العميقة. و لابد من الإعتراف أننا جميعا مسؤولون بدرجات متفاوتة و بطريقة مباشرة أو غير مباشرة عن هذه الأزمة التي تعتبر أيضا أزمة ثقة حادة بين الحاكم و المحكومين.

لذلك فنحن مسؤولون أيضا عن المساهمة في إيجاد الحلول من خلال وعينا و تحلينا بروح المسؤولية و ضم جهودنا لهذه الهبة الشعبية من أجل الدفاع عن قيم المواطنة التي تضمن لنا جميعا، رغم اختلاف مشاربنا و قناعاتنا الشخصية أن نعيش و نعمل معا لتحقيق رفاهية شعبنا و رقي بلدنا.

زميلاتي زملائي القضاة،

إن الإشارة القوية التي يمكن أن تصدر عنكم، تجاه كل الفاعلين السياسيين و الإجتماعيين، يمكن أن تساهم في خلق الشروط المناسبة لإنطلاقة جديدة و سليمة لبناء دولة القانون التي يخضع فيها الجميع لسلطان القانون الصادر عن إرادة الشعب. لكن ذلك لن يتحقق إلا إذا برهن القضاة عن وعيهم و وحدتهم و أنهم فوق المصالح الظرفية و الطموحات الشخصية.

 

زملائي زميلاتي القضاة،

إنني أوجه خطابي للشباب منكم على وجه الخصوص، لأدعوهم إلى الحيطة و الحذر من أي جهة تسعى لإستغلال حماسهم و تبنى مطالبهم و تطلعاتهم. فالمرحلة تقتضي توحيد الصفوف و تظافر الجهود من أجل المساهمة بشكل بناء في النقاش العام الذي ستتحدد من خلاله معالم المرحلة المقبلة.

و الأمر لا يتعلق هنا بالدفاع عن مصالح سلك القضاء بل بالدفاع عن المبادئ التي تجعل القضاء باعتباره قيمة إجتماعية أساسية و دعامة رئيسية للديمقراطية بمنأى عن الحلول السياسية الظرفية التي قد تنتقص من دوره الطبيعي و الدستوري سواء في المرحلة الراهنة أو المقبلة.

إن الأسرة القضائية طرف أساسي في ديناميكية التغيير التي نعيشها لذلك يتعين عليهم المساهمة بشكل إيجابي في النظام الجديد الذي نحن مقبلون عليه من خلال تقديم أجوبة واضحة للتحديات المطروحة ذات الصلة بمصير القضاء و الدولة و المجتمع ككل و في هذا الإطار ينبغي أن ينصب التفكير خصوصا حول النقاط الأساسية التالية :

  • تكريس مبدأ استقلال القضاء في النصوص الدستورية وفقا للمعايير الدولية ذات الصلة بشكل لا رجعة فيه،
  • إعادة النظر في تشكيلة و تنظيم و صلاحيات و قواعد سير المجلس الأعلى للقضاء ليصبح له الدور الرئيس في ضمان استقلال و كفاءة و نزاهة القضاة،
  • إعادة تنظيم العلاقة بين وزارة العدل و النيابات العامة لتفادي أي “تسييس” في مجال تحريك و تسيير الدعوى العمومية،
  • توفير الشروط المهنية و المادية التي تحفظ للقاضي كرامته و تجعله بمنأى عن أي إغراءات أو ضغوط أو تهديدات قد تمس بحياده و نزاهته،
  • وضع الآليات القانونية التي تجعل القضاء أكثر قربا من المتقاضين و أكثر تجاوبا مع المحيط الإجتماعي و الإقتصادي.
  • إعادة تنظيم العلاقة بين القضاء وهيئة الدفاع و مساعدي القضاء لجعلها أساسا و بالدرجة الأولى في خدمة العدالة و المتقاضين.

 

إن الثقة في من سيتولى تسيير المرحلة المقبلة لن تتحقق بدون تدعيم استقلال القضاء الذي ينبغي أن تتوفر له كل الإمكانات القانونية و التنظيمية و المادية لمواجهة الظلم و الفساد  و كل أشكال التعسف . تلكم هي الشروط المسبقة لأي إصلاح عميق و تلكم هي الشروط اللازمة و الضرورية لتفادي تكرار أخطاء الماضي.

و السلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته

                                                                           *مختار الأخضري

مستشار بالمحكمة العليا 

الجزائر، 21 مارس 2019